فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} الويل مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم: وال مصنوع كما في (البحر) ومثله ويح وويب وويس وويه وعول، ولا يثنى ولا يجمع ويقال: ويلة ويجمع على ويلات وإذا أضيف فالأحسن فيه النصب ولا يجوز غيره عند بعض وإذا أفردته اختير الرفع ومعناه الفضيحة والحسرة وقال الخليل: شدة الشر؛ وابن المفضل الحزن وغيرها الهلكة.
وقال الأصمعي: هي كلمة تفجع وقد تكون ترحمًا ومنه ويل أمه مسعر حرب وورد من طرق صححها الحفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الويل واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره» وفي بعض الروايات: «إنه جبل فيها» وإطلاقه على ذلك إما حقيقة شرعية، وإما مجاز لغوي من إطلاق لفظ الحال على المحل ولا يمكن أن يكون حقيقة لغوية لأن العرب تكلمت به في نظمها ونثرها قبل أن يجئ القرآن ولم تطلقه على ذلك وعلى كل حال هو هنا مبتدأ خبره {لِلَّذِينَ} فإن كان علمًا لما في الخبر فظاهر، وإلا فالذي سوغ الابتداء به كونه دعاء، وقد حول عن المصدر المنصوب للدلالة على الدوام والثبات، ومثله يجوز فيه ذلك لأنه غير مخبر عنه، وقيل: لتخصص النكرة فيه بالداعي كما تخصص سلام في سلام عليك بالمسلم فإن المعنى سلامي عليك وكذلك المعنى هاهنا دعائي عليهم بالهلك ثابت لهم والكتابة معروفة.
وذكر الأيدي تأكيدًا لدفع توهم المجاز، ويقال: أول من كتب بالقلم إدريس، وقيل: آدم عليهما السلام، والمراد بالكتاب المحرف، وقد روي أنهم كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صورة النبي صلى الله عليه وسلم وبثوها في سفهائهم وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل وصاروا إذا سئلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: ما هذا هو الموصوف عندنا في التوراة ويخرجون التوراة المبدلة ويقرؤنها ويقولون: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله، ويحتمل أن يكون المراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة وروّجوه على العامة، وقد قال بعض العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بإشارة لا يعرفها إلا العالمون، ولو كان متجليًا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضًا بنقله من لسان إلى لسان، وقد وجد في التوراة ألفاظ إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام بتعريض هو عند الراسخين جلي، وعند العامة خفي، فعمد إلى ذلك أحبار من اليهود فأوّلوه، وكتبوا تأويلاتهم المحرفة بأيديهم.
{ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله} إعظامًا لشأنه وتمكينًا له في قلوب أتباعهم الأميين، و{ثُمَّ} للتراخي الرتبي، فإن نسبة المحرفة والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحًا أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل، والإشارة إما إلى الجميع، أو إلى الخصوص. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} فهو تنبيه على أمرين.
الأول: أنه تنبيه على نهاية شقاوتهم لأن العاقل يجب أن لا يرضى بالوزر القليل في الآخرة لأجل الأجر العظيم في الدنيا، فكيف يليق به أن يرضى بالعقاب العظيم في الآخرة لأجل النفع الحقير في الدنيا، الثاني: أنه يدل على أنهم ما فعلوا ذلك التحريف ديانة بل إنما فعلوه طلبًا للمال والجاه، وهذا يدل على أن أخذ المال على الباطل وإن كان بالتراضي فهو محرم، لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان على محبة ورضا، ومع ذلك فقد نبه تعالى على تحريمه. اهـ.

.قال الألوسي:

{لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} أي ليحصلوا بما أشاروا إليه غرضًا من أغراض الدنيا الدنيئة، وهو وإن جل أقل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الدائم، وحرموه من الثواب المقيم، وهو علة للقول كما في (البحر) ولا أرى في الآية دليلًا على المنع من أخذ الأجرة على كتابة المصاحف، ولا على كراهية بيعها، والأعمش تأول الآية واستدل بها على الكراهة وطرف المنصف أعمى عن ذلك نعم ذهب إلى الكراهة جمع منهم: ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وبه قال بعض الأئمة: لكن لا أظنهم يستدلون بهذه الآية، وتمام البحث في محله. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} فالمراد أن كتبتهم لما كتبوه ذنب عظيم بانفراده، وكذلك أخذهم المال عليه، فلذلك أعاد ذكر الويل في الكسب، ولو لم يعد ذكره كان يجوز أن يقال: إن مجموعهما يقتضي الوعيد العظيم دون كل واحد منهما، فأزال الله تعالى هذه الشبهة واختلفوا في قوله تعالى: {مِّمَّا يَكْسِبُونَ} هل المراد ما كانوا يأخذون على هذه الكتابة والتحريف فقط أو المراد بذلك سائر معاصيهم والأقرب في نظام الكلام أنه راجع إلى المذكور من المال المأخوذ على هذا الوجه وإن كان الأقرب من حيث العموم أنه يشمل الكل، لكن الذي يرجح الأول أنه متى لم يقيد كسبهم بهذا القيد لم يحسن الوعيد عليه لأن الكسب يدخل فيه الحلال والحرام، فلابد من تقييده وأولى ما يقيد به ما تقدم ذكره.
قال القاضي: دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقًا لله تعالى، لأنها لو كانت خلقًا لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم: {هُوَ مِنْ عِندِ الله} ذلك حقيقة لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فهب أن العبد مكتسب إلا أن انتساب الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب فكان اسناد تلك الكتبة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العبد، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها.
أنها من عند الله ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتبة ليست مخلوقة لله تعالى.
والجواب: أن الداعية الموجبة لها من خلق الله تعالى بالدلائل المذكورة فهي أيضًا تكون كذلك. والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل مما يكسبون}: كتابتهم مقدمة، نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط.
فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك.
وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام، وهو الأليق بمساق الآية.
وقيل: المراد بما يكسبون الأعمال السيئة، فيحتاج في كلا القولين إلى اختصاص، لأن ما يكسبون عام، والأولى أن يقيد بما ذكرناه. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} الفاء لتفصيل ما أجمل في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ} الخ، حيث يدل على ثبوت الويل للموصوفين بما ذكر لأجل اتصافهم به بناءً على التعليق بالوصف من غير دلالة على أن ثبوته لأجل مجموع ما ذكر أو لا بل كل واحد فبين ذلك بقوله: {وَيْلٌ لَهُمْ} الخ مع ما فيه من التنصيص بالعلة، ولا يخفى ما في هذا الإجمال والتفصيل من المبالغة في الوعيد والزجر والتهويل.
ومن تعليلية متعلقة بويل أو بالاستقرار في الخبر، وما قيل: موصولة اسمية، والعائد محذوف، أي: كتبته وقيل: مصدرية والأول: أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف والثاني: في الزجر عن التحريف وما الثانية مثلها، ورجح بعضهم المصدرية في الموضعين لفظًا ومعنى لعدم تقدير العائد، ولأن مكسوب العبد حقيقة فعله الذي يعاقب عليه ويثاب، وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن العبد كما يعاقب على نفس فعله، يعاقب على أثر فعله، لإفضائه إلى حرام آخر وهو هنا يفضي إلى إضلال الغير وأكل الحرام وغاير بين الآيتين بأنه بين في الأولى: استحقاقهم العقاب بنفس الفعل وفي الثانية: استحقاقهم له بأثره، ولذا جاء بالفاء ولا يخفى أنه كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أرباب التدقيق ومما ذكرنا ظهر فائدة ذكر الويل ثلاث مرات، وقيل: فائدته أن اليهود جنوا ثلاث جنايات.
تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والافتراء على الله تعالى، وأخذ الرشوة.
فهددوا بكل جناية بالويل وكأنه جعل محط الفائدة في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ} إلى آخر المعطوف كما في خبر «لا يؤمّن الرجل قومًا فيخص نفسه بالدعاء» وهو على بعده لا يظهر عليه وجه إيراد الفاء في الثاني، ثم الظاهر أن مفعول الكسب خاص وهو ما دل عليه سياق الآية وقيل: المراد ب {مَا يَكْسِبُونَ} جميع الأعمال السيئة ليشمل القول ولا يخفى بُعده وعدم التعرض للقول لما أنه من مبادئ ترويج {ما كتبت أيديهم} والآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي صلى الله عليه وسلم على حالها فغيروها، وقيل: خاف ملوكهم على مُلكهم إذا آمن الناس فرشوهم فحرفوا، والقول بأنها نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ولم يتبعوا كتابًا، بل كتبوا بأيديهم كتابًا وحللوا فيه ما اختاروا، وحرّموا ما اختاروا، وقالوا: هذا من عند الله غير مرضي، كالقول بأنها نزلت في عبد الله بن سرح كاتب النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير القرآن فارتد. اهـ.
سؤال: إن قال لنا قائل: ما وجه قوله: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم}؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد، حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة، إلى أن يخبروا عن هؤلاء- القوم الذين قص الله قصتهم- أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟
قيل له: إن الكتاب من بني آدم، وإن كان منهم باليد، فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه فيقال: كتب فلان إلى فلان بكذا، وإن كان المتولي كتابته بيده، غير المضاف إليه الكتاب، إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب. فأعلم ربنا بقوله: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} عباده المؤمنين، أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم، على علم منهم وعمد للكذب على الله، ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله، تَكَذُّبا على الله وافتراء عليه. فنفى جل ثناؤه بقوله: {يكتبون الكتاب بأيديهم}، أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظير قول القائل: باعني فلان عينُه كذا وكذا، فاشترى فلان نفسه كذا، يراد بإدخال النفس والعين في ذلك، نفي اللبس عن سامعه، أن يكون المتولي بيع ذلك أو شراءه، غير الموصوف له أمره، ويوجب حقيقة الفعل للمخبر عنه، فكذلك قوله: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم}. اهـ.

.قال في روح البيان:

وفي الآيات إشارات:
الأولى: إن علم الرجل ويقينه ومعرفته ومكالمته مع الله لا يفيده الإيمان الحقيقي إلا أن يتداركه الله بفضله ورحمته قال الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُه مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21] وإن الله تعالى كلم إبليس وخاطبه بقوله: {يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].
وما أفاده الإيمان الحقيقي إذا لم يكن مؤيدًا من الله بفضله ورحمته ولم يبق على الإيمان بعد العيان فكيف يؤمن بالبرهان.
والثانية: إن العالم المعاند والعامي المقلد سواء في الضلال لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكن من العلم وأن الدين ليس بالتمني فالذين ركنوا إلى التقليد المحض واغتروا بظنون فاسدة وتخمينات مبهمة فهم الذين لا تصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها دون معرفة معانيها وإدراك أسرارها وحقائقها وهذا حال أكثر أهل زماننا من مدعي الإسلام فالمدعي والمتمني عاقبتهما خسران وضلال وحسرة وندامة ووبال.
والثالثة: أن من بدل أو غير أو ابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخل في الوعيد المذكور وقد حذر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمته لما علم ما يكون في آخر الزمان فقال: «ألا أن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة» فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه فيضلوا به الناس وقد وقع ما حذره وشاع وكثر وذاع فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والرابعة: إن بعض المتسمين بالصوفية ينضم إلى الأولياء وأرباب القلوب ظاهرًا ثم لا يصدق الإرادة ويميل إلى أهل الغفلة ويصغي إلى أقوالهم ويشتهي ارتكاب أفعالهم وكلما دعته هواتف الحظوظ سارع إلى الإجابة طوعًا وإذا قادته دواعي الحق تكلف كرهًا ليس له إخلاص في الصحبة في طريق الحق فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون من الإلحاد عن الحق واعتقاد السوء وإغراء الخلق وإضلالهم فهم الذين ضلوا وأضلوا كثيرًا.
فعلى السالك أن يجتهد في الوصول إلى الموجود الحق ويتخلص من الموهوم المطلق ولا يغتر بظواهر الحالات غافلًا عن بطون الاعتبارات فإن طريق الحق أدق من كل دقيق وماء عميق وفج سحيق وأجهل الناس من يترك يقين ما عنده من صفات نفسه التي لا شك فيها الظن ما عند الناس من صلاحية حاله.
قال حارث بن أسد المحاسبي رضي الله عنه الراضي بالمدح بالباطل كمن يهزأ به فالعاقل لا يغتر بمثله بل يجتهد إلى أن يصل إلى الحقيقة فويل لواعظ تكبر وافتخر بتقبيل الناس يده ورأى نفسه خيرًا من السامعين ويتقيد بالمدح والذم اللهم إلا أن يخرج ذلك من قلبه والمعيار مساواة المقبل واللاطم عنده بل رجحان اللاطم والضارب.
قال في مجلس وعظه جنيد البغدادي لو لم أسمع قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» لما اجترأت على الوعظ فأنا ذلك الرجل الفاجر. اهـ.

.قال الماوردي:

وفي قوله تعالى: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} تأويلان:
أحدهما: ليأخذوا به عرض الدنيا، لأنه قليل المدة، كما قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} وهذا قول أبي العالية.
والثاني: أنه قليل لأنه حرام. اهـ.